الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
قاعــــدة: الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور، في أغلب الناس، مثل تقابلهم في بعض الأفعال، يتخذها بعضهم دينًا واجبًا، أو مُستحبًا، أو مأمورًا به في الجملة، وبعضهم يعتقدها حرامًا مكروهًا، أو محرمًا، أو منهيًا عنه في الجملة. مثال ذلك: سماع الغناء، فإن طائفة من المتصوفة، والمتفقرة تتخذه دينًا، وإن لم تقل بألسنتها، أو تعتقد بقلوبها أنه قربة ، فإن دينهم حال لا اعتقاد؛ فحالهم وعملهم هو استحسانها في قلوبهم، ومحبتهم لها، ديانة وتقربًا إلى الله، وإن كان بعضهم قد يعتقد ذلك، ويقوله بلسانه. وفيهم من يعتقد ، ويقول: ليس قربة ، لكن حالهم هو كونه قربة، ونافعًا في الدين، ومصلحًا للقلوب. ويغلو فيه من يغلو ، حتى يجعل التاركين له كلهم خارجين عن ولاية الله، وثمراتها من المنازل العلية. بإزائهم من ينكر جميع أنواع الغناء ويحرمه، ولا يفصل بين غناء الصغير والنساء في الأفراح، وغناء غيرهن وغنائهن في غير الأفراح. ويغلو من يغلو في فاعليه حتى يجعلهم كلهم فساقًا أو كفارًا. وهذان الطرفان من اتخاذ ما ليس بمشروع دينًا، أو تحريم ما لم يحرم، دين الجاهلية والنصارى، الذي عابه الله عليهم، كما قال تعالى: ومثال ذلك أن يحصل من بعضهم تقصير في المأمور أو اعتداء في المنهي؛ إما من جنس الشبهات، وإما من جنس الشهوات، فيقابل ذلك بعضهم بالاعتداء في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، أو بالتقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والتقصير والاعتداء ـ إما في المأمور به والمنهي عنه شرعًا، وإما في نفس أمر الناس ونهيهم ـ هو الذي استحق به أهل الكتاب العقوبة، حيث قال: وكذلك يضمن كل مؤتمن على مال إذا قصر وفرط فيما أمر به وهو المعصية، إذا اعتدى بخيانة أو غيرها؛ ولهذا قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم محارم فلا تنتهكوها وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها)، فالمعصية تضييع الفرائض، وانتهاك المحارم، وهو مخالفة الأمر والنهي، والاعتداء مجاوزة حدود المباحات. وقال تعالى: واعلم أن [مجاوزة الحد] هي نوع من مخالفة النهي؛ لأن اعتداء الحد محرم منهي عنه، فيدخل في قسم المنهي عنه، لكن المنهي عنه قسمان: منهي عنه مطلقًا كالكفر، فهذا فعله إثم، ومنهي عنه. وقسم أبيح منه أنواع ومقادير ، وحرم الزيادة على تلك الأنواع والمقادير، فهذا فعله عدوان. وكذلك قد يحصل العدوان في المأمور به كما يحصل في المباح، فإن الزيادة على المأمور به قد يكون عدوانًا محرمًا، وقد يكون مباحًا مطلقًا، وقد يكون مباحًا إلى غاية، فالزيادة عليها عدوان. ولهذا التقسيم قيل في [الشريعة]: هي الأمر والنهي، والحلال والحرام، والفرائض والحدود، والسنن والأحكام. و[الفرائض]: هي المقادير في المأمور به، و[الحدود]: النهايات لما يجوز من المباح المأمور به وغير المأمور به.
بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة ـ أبي البركات عدي بن مسافر الأموي ـ (هو أبو البركات عدي بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان. تنسب إليه طائفة العدوية سار ذكره في الآفاق وتبعه خلق كثير، توفى سنة سبع، وقيل: خمس وخمسين وخمسمائة) ـ رحمه الله ـ ومن نحا نحوهم ، وفقهم الله لسلوك سبيله، وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج ؛ الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عنده درجة، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنًا عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله. وجعلهم أمة وسطًا أي عدلًا خيارًا، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، هداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم ـ بعد ذلك ـ بما ميزهم وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم. فالأول: مثل أصول الإيمان وأعلاها وأفضلها هو [التوحيد] وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، كما قال تعالى: ومثل الإيمان بجميع كتب الله، وجميع رسله، كما قال تعالى: ومثل الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب، كما أخبر عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم به، حيث قال: ومثل أصول الشرائع كما ذكر في سورة [الأنعام] و[الأعراف] و[سبحان] وغيرهن من السور المكية: من أمره بعبادته وحده لا شريك له، وأمره ببر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والعدل في المقال، وتوفية الميزان والمكيال، وإعطاء السائل والمحروم، وتحريم قتل النفس بغير الحق، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحريم الإثم والبغي بغير الحق، وتحريم الكلام في الدين بغير علم، مع ما يدخل في التوحيد من إخلاص الدين لله، والتوكل على الله والرجاء لرحمة الله، والخوف من الله، والصبر لحكم الله والقيام لأمر الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من أهله وماله والناس أجمعين. إلى غير ذلك من أصول الإيمان التي أنزل الله ذكرها في مواضع من القرآن، كالسور المكية وبعض المدنية. وأما الثاني: فما أنزله الله في السور المدنية من شرائع دينه، وما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فإن الله سبحانه أنزل عليه الكتاب والحكمة وامتن على المؤمنين بذلك، وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك، فقال: قال غير واحد من السلف: الحكمة هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه ـ رضي الله عنهن ـ سوى القرآن هو سننه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) وقال حسان بن عطية (هو أبو بكر حسان بن عطية المحاربي مولاهم الدمشقي، وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان، وذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات في العشرين إلى الثلاثين ومائة ، وقال: كان من أفاضل أهل زمانه): كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن، فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن. وهذه الشرائع التي هدي الله بها هذا النبي وأمته مثل: الوجهة، والمنسك، والمنهاج، وذلك مثل الصلوات الخمس في أوقاتها بهذا العدد، وهذه القراءة، والركوع ، والسجود، واستقبال الكعبة. ومثل فرائض الزكاة ونصبها التي فرضها في أموال المسلمين: من الماشية والحبوب، والثمار، والتجارة، والذهب، والفضة، ومن جعلت له ، حيث يقول: ومثل صيام شهر رمضان، ومثل حج البيت الحرام، ومثل الحدود التي حدها لهم، في المناكح، والمواريث، والعقوبات والمبايعات، ومثل السنن التي سنها لهم؛ من الأعياد، والجمعات، والجماعات في المكتوبات، والجماعات في الكسوف والاستسقاء وصلاة الجنازة والتراويح. وما سنه لهم في العادات، مثل: المطاعم ، والملابس، والولادة، والموت، و نحو ذلك من السنن، والآداب، والأحكام التي هي حكم الله ورسوله بينهم، في الدماء، والأموال، والأبضاع، والأعراض، والمنافع،والأبشار، وغير ذلك من الحدود والحقوق، إلى غير ذلك مما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ، فجعلهم متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة كما ضلت الأمم قبلهم؛ إذ كانت كل أمة إذا ضلت أرسل الله تعالى رسولا إليهم، كما قال تعالى: ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة كما كان الكتاب والسنة حجة؛ ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة والسنة والجماعة عن أهل الباطل، الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ، ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين. فإن الله أمر في كتابه باتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولزوم سبيله، ،وأمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى: وقال تعالى: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون). فأمر ـ سبحانه ـ في [أم الكتاب] التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، والتي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش، التي لا تجزئ صلاة إلا بها: أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ، كاليهود، ولا الضالين ، كالنصارى. وهذا [الصراط المستقيم] هو دين الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله تعالى، وهو [السنة والجماعة] فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه من وجوه متعددة رواها أهل السنن والمسانيد، كالإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم أنه قال: (ستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) وفي رواية: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). وهذه الفرقة الناجية: أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون. ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا. بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، كما قال تعالى: ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في [المسيح] فلم يقولوا:هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا: هذا عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه. وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء، ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: ولا جَوَّزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عما شاؤوا ، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: والمؤمنون قالوا: [لله الخلق والأمر] فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره. وقالوا: سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: وكذلك في صفات الله تعالى: فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، فقالوا: هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولة. وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت. إلى غير ذلك. والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به، فقالوا: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب. والمؤمنون آمنوا بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس له سمى ولا ند ، و لم يكن له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء ، فإنه رب العالمين وخالق كل شيء ، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه ومن ذلك: أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال الله تعالى: وأما النصارى، فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: وأما المؤمنون، فكما نعتهم الله به في قوله: وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق. فهم في [باب أسماء الله وآياته وصفاته] وسط بين [أهل التعطيل] الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين [أهل التمثيل] الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات. فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل. وهم في [باب خلقه وأمره] وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير. فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات. ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا، إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وهم في [باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد] وسط بين الوعيدية، الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية. فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته. وهم ـ أيضًا ـ في [أصحاب رسول الله] ـ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ـ وسط بين الغالية، الذين يغالون في على ـ رضي الله عنه ـ فيفضلـونه على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان ـ رضي الله عنهما ـ ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحبون سب على وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة على رضي الله عنه وإمامته. وكذلك في سائر أبواب السنة، هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وأنتم ـ أصلحكم الله ـ قد مَنَّ الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام الذي هو دين الله، وعافاكم الله مما ابتلى به من خرج عن الإسلام من المشركين وأهل الكتاب. والإسلام أعظم النعم وأجلها؛ فإن الله لا يقبل من أحد دينًا سواه وعافاكم الله بانتسابكم إلى السنة من أكثر البدع المضلة، مثل كثير من بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية، بحيث جعل عندكم من البغض لمن يكذب بأسماء الله وصفاته، وقضائه وقدره، أو يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو من طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا من أكبر نعم الله على من أنعم عليه بذلك ، فإن هذا من تمام الإيمان وكمال الدين؛ ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين، وما زال في عساكر المسلمين المنصورة وجنود الله المؤيدة منكم، من يؤيد الله به الدين ، ويعز به المؤمنين. وفي أهل الزهادة والعبادة منكم من له الأحوال الزكية والطريقة المرضية، وله المكاشفات والتصرفات. وفيكم من أولياء الله المتقين من له لسان صدق في العالمين، فإن قدماء المشائخ الذين كانوا فيكم، مثل الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري وبعده الشيخ العارف القدوة عدي بن مسافر الأموي، ومن سلك سبيلهما فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة ما عظم الله به أقدارهم، ورفع به منارهم. والشيخ عدي ـ قدس الله روحه ـ كان من أفاضل عباد الله الصالحين وأكابر المشائخ المتبعين، وله من الأحوال الزكية والمناقب العلية ما يعرفه أهل المعرفة بذلك. وله في الأمة صيت مشهور ولسان صدق مذكور، وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشائخ الذين سلك سبيلهم، كالشيخ الإمام الصالح أبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي [عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي، أبو الفرج شيخ الشام في وقته، حنبلي أصله من شيراز، تفقه ببغداد ، وسكن بيت المقدس واستقر في دمشق ، فنشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومن مؤلفاته [الإيضاح]، و[الجواهر] ، وتوفي بدمشق]، وكشيخ الإسلام الهكاري ونحوهما. وهؤلاء المشائخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول [أهل السنة والجماعة] بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة والدعاء إليها والحرص على نشرها ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم، وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد، مع أنه لابد وأن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة والدلائل الضعيفة، كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد ما يعرفه أهل البصيرة. وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة ، والفقه فيهما ، ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها وناتج المقاييس وعقيمها، مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء ، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق ، وحصول العداوة والشقاق. فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب [قوة الجهل والظلم] اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله: وأنتم تعلمون ـ أصلحكم الله ـ أن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها ويذم من خالفها، هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمور الاعتقادات، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات.وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان. وذلك في دواوين الإسلام المعروفة؛ مثل: صحيحي البخاري ومسلم، وكتب السنن؛ مثل: سنن أبي داود، والنسائي، وجامع الترمذي، وموطأ الإمام مالك، ومثل: المسانيد المعروفة؛ كمثل مسند الإمام أحمد وغيره. ويوجد في كتب [التفاسير] و[المغازي] وسائر كتب الحديث جملها وأجزائها من الآثار ما يستدل ببعضها على بعض. وهذا أمر قد أقام الله له من أهل المعرفة من اعتنى به، حتى حفظ الله الدين على أهله. وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب [عقائد أهل السنة] مثل: حماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وعثمان بن سعيد الدارمي،وغيرهم في طبقتهم. ومثلها ما بوب عليه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم في كتبهم. ومثل مصنفات أبي بكر الأثرم، وعبد الله بن أحمد، وأبي بكر الخلال، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي بكر الآجري، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي عبد الله بن منده، وأبي القاسم اللالكائي، وأبي عبد الله بن بطة، وأبي عمرو الطلمنكي، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي بكر البيهقي، وأبي ذر الهروي، وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة. وقد يروي كثير من الناس في الصفات، وسائر أبواب الاعتقادات وعامة أبواب الدين، أحاديث كثيرة تكون مكذوبة، موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قسمان: منها ما يكون كلامًا باطلاً لا يجوز أن يقال، فضلا عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والقسم الثاني من الكلام: ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض العلماء أو بعض الناس، ويكون حقًا. أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهبًا لقائله، فيعزي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي وضعها الشيخ أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري، وجعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي، وهي مسائل معروفة، عملها بعض الكذابين وجعل لها إسنادًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها من كلامه، وهذا يعلمه من له أدنى معرفة أنه مكذوب مفترى. وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقًا لأصول السنة، ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع، مثل أول نعمة أنعم بها على عبده؛ فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة، والنزاع فيها لفظي لأن مبناها على أن اللذة التي يعقبها ألم، هل تسمى نعمة أم لا؟ وفيها أيضًا أشياء مرجوحة. فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا.
|